يوميات حنظلة 3
مر عام وجرح الله في شفتي
قيل مات وقال الدمع لم أمت
الخبر ملأ صفحات الجرائد بهذا ملصق الإعلاني (( رحيل السيد بو عن عمر ناهز الستين عاماً , وعن أعمال خارقة قام بها , والتي لا يمكن لنا أن نحصيها , لكن العالم سيتذكر السيد بو , كلما ذكرت مآثره ستدمع عينا كل إنسان , سواءاً الذي عرفه أو الذي لم يعرفه )) إلى هنا انتهى الملصق الإعلاني .. لكن ما حدث عند قبره كان له حكاية أخرى , ساقتها الألسن وعبرت البلدان .. قالوا : أن قبره أصبح مزاراً للأغنياء والفقراء , محجاً لملايين الناس , حيث بات كل فرد يلقي التحية , على ضريحه المقدس ويترك رسالة قصيرة .. وقد حار الخبراء الاجتماعيون في هذه الظاهرة اللافتة , كما علماء النفس في الدول الكبرى , عم يدفع الملايين لأن يتركوا كلماتهم عند قبره ؟
أراد باحث شاب أن يكشف عن السر , ليكون بحثه فتحاً جديداً , في عالم المعرفة الإنسانية , فانتظر لساعة انتفضت الجموع عن اللحد , واقترب ليجمع مئات الرسائل ..
وهناك في منزله في ساعة متأخرة من الليل , قرأ باحثنا بعضاً منها كانت أولاها , من رجل أعمال , كان يتاجر بالأسلحة كان هذا نصها : (( لا أعرف كيف أشكرك يا سيد بو .. كما لا أعرف كيف أوصل لك كلماتي , فأنا أصبحت بفضلك أغنى إنسان على وجه الأرض , وأحفادي سيظلون ممتنين لك لأجيال وأجيال , قبلاتي الحارة لشياطين العالم السفلي .))
والرسالة الثانية كانت من مشرد عربي كان هذا نصها : (( لا أدري ماذا أقول يا سيد بو ؟ أعتقد أنه علي أن أشكر الله , لأنه أختارك لترحل إلى العالم الآخر , فتقبل لعناتي .. ولعنات أحفادي لأجيال وأجيال , وأعذرني لضيق وقتي فأنا ماض كي أبني كل ما دمرته , ماض لأبني وطني .. وبيتي ولأغرس حقلي , وأنا واثق أن الله لن يهبنا سيد بو جديد , لهذا فلن أعنى بالمبيدات فلا خطر بعد اليوم على أشجاري .. وقمحي .. وأزهاري , لا خطر أبداً .))
تناول أخرى كانت من أم ثكلى , فجعت بولدها في الحرب الأخيرة : (( لا أعرف من أين أبدأ يا سيدي ؟ هل أبداً من لحظة أسرع فيها ولدي إلي ليخبرني ؟ أنه أخيراً يستطيع أن يشكل أسرة ويعيش بكرامة , وحين التفت أسأله :
- كيف ؟؟ أجاب :
- أصبحت جندياً يا أمي كلها شهور وأعود إليك وإلى ريكا .
ومر عام يا سيد بو , ولم يعد ولدي قيل أن الحرب أحرقت هناك كل شيء , لهذا فلم يتحمل جو هذا الجحيم فقتل نفسه , ليعود إلي في تابوت مزدان بذاك العلم .. آه لكم كنت أريد الاحتفاء به , لكنك يا سيد بو قتلت هذا الحلم بداخلي .))
تناول رسالة أخرى مختومة بتوقيع ملكي , وباقة ورد برفقة شكر خاص , فض الرسالة وقرأ : (( أحم .. أحم سيد بو رغم كل مشاغلي أحم .. أحم جئت لأقول لك هذه الكلمات .. أتذكر ذلك اللقاء التاريخي بيننا , لا أعرف .. لماذا ساعتها رقص قلبي كما سيفي فرحاً ؟ فقد كنت سعيداً رغم النظرات الشذراء من قبل شعبي .. لكنني لست ممن يأبه لأحد كما تعلم , وإلا لما قدمت نفطي وكرامتي رخيصة وبأبخس الأثمان إلك , وأنا أتخيل أن صورتي ستكون إلى جوار , بطل تاريخي لن يتكرر .. لا .. لا داعي لأن تقرعني وتقول : أنني أكذب فأنت ميت كما ترى .. ولم أعد أخشى سطوتك كما تعرف , ولكنني جئت لأنني مخلص لك يا سيدي , وستعرف كم خسرت لأنال رضاك الإمبراطوري .. والآن أمسية سعيدة , وتقبلك الله في رحمته , وإن كنت أشك بأن يفعل , أترك لك هذه الرسالة علها , تكون مؤنساً لك في وحشتك , وأنت مشرد بين السماء والأرض .))
أمسك الباحث رسالة لم تكن من غني أو فقير , ولم تكن من رجل أو امرأة , كانت من طفل صغير كان هذا نصها : (( كنت أحلم يا سيد بو ككل الأطفال , بأن يكون لي منزل .. ومدرسة وأن يكون لي فسحة ألعب بها , وعائلة انتمي إليها , لكنني خسرت كل هذا , ودمرت يا بو المنزل .. والمدرسة .. والفسحة والعائلة , ولم أعد أستطيع أن أرفع يداي بالاحتجاج على جرائمك , لأن حربك صادرتها مني .. الموقع علي .. محمد .. ناصر .. أحمد .. إيمان .. فاتن .. ربى .. عائشة .. خديجة .. زينب ..
وجد مائة توقيع , وتناول رسالة أخيرة للمفاجأة كانت الرسالة من عفريت , مر باللحد مصادفة وهذا نصها : (( أخبروني أنني قرب لحدك يا بو , لهذا فقد ساءني ألا أترك لك , ما تذكرني به لا أعرف كم علي أن أشكرك , فلقد أصبحت مارداً في كل البيوت ووحشاً كاسراً , في عقول الأطفال .. جميع الأطفال .. فقد عدت بقوة إلى حكاياتهم البسيطة , وعاد المجد لشيوخ تكفلوا بإبعادي , لكن للأسف عادة ما أكون بعيداً .. بعيداً عندما يبدأ أي شيخ بقراءة تعاويذه , البعض يموت أحياناً بين أيديهم , فيما البعض الآخر يقسم , أنه لن يستضيفني في منزله أو جسده , أصبحت أسطورة تسري في خيالات الملايين الأطفال منهم والشيوخ والنساء , لكنني رغم هذا حزين جداً .. أتعرف لماذا ؟ ربما لأنك لازالت تمثل لجميع .. البشر العدو رقم واحد .))
رمى الباحث بالرسائل إلى النار , وأعلن اعتزاله هذا الفرع من العلم , لأنه برغم كل هذا التحدي لديه لم يجد تفسيراً واحداً منطقياً , لكل هذا الكم من الرسائل قرب اللحد .
حنظلة من بلد المليار شهيد وشهيد